كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



روى الإمام أحمد عن أبي في المطبوع: ابن قتادة، وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو البيت، قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي، أخذ بيدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل، وقال: «إنك لا تدع شيئًا اتقاء الله تعالى، إلا أعطاك الله عز وجل خيرًا منه». انتهى ما ذكره ابن كثير.
وقال القاشاني: أي: طفق يمسح السيف بسوقها، يعرقب بعضها، وينحر بعضها، كسرًا لأصنام النفس التي تعبدها بهواها، وقمعًا لسورتها وقواها، ورفعًا للحجاب الحائل بينه وبين الحق، واستغفارًا وإنابة إليه بالتجريد والترك.
وقد ذهب الرازي إلى تأويل آخر استصوبه، قال: إن رباط الخيل كان مندوبًا إليه في دينهم. كما أنه كذلك في دين الإسلام، ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو، فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله، وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله: {عَن ذِكْرِ رَبِّي} ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي: غابت عن بصره. ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه. فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، والغرض من ذلك المسح أمور:
الأول- تشريفًا لها وإبانة لعزتها، لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
والثاني- أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتصنع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه. الثالث- أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها. فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض.
وقال: فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقًا مطابقًا موافقًا. ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات.
قال: وأنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة، مع أن العقل والنقل يردها، وليس لهم في إثباتها شبهة، فضلًا عن حجة، فإن قيل: إن الجمهور فسروا الآية بذلك الوجه، فما قولك فيه؟ فنقول: لنا هاهنا مقامان:
المقام الأول- أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها. وقد ظهر، والحمد لله، أن الأمر كما ذكرناه، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه.
المقام الثاني- أن يقال: هب أن لفظ الآية لا يدل عليه، إلا أنه كلام ذكره الناس. فما قولك فيه؟ وجوابنا أن الأدلة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام، ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم؟ والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وسبقه ابن حزم حيث قال: تأويل الآية على أنه قتل الخيل؛ إذ اشتغل بها عن الصلاة. خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة، قد جمعت أفانين من القول؛ لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها، والتمثيل بها، وإتلاف مال منتفع به بلا معنى، ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل، ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها، وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير. من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس، أو تلك الصافنات بحجابها، ثم أمر بردها. فطفق مسحًا بسوقها، وأعناقها بيده، برًا بها، وإكراما لها، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره، وليس فيها إشارة أصلًا إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة، وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين. فكيف، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ انتهى كلام ابن حزم.
وأقول: الذي يتجه أن هذه القصة أشير بها إلى نبأ لديهم؛ لأن التنزيل الكريم مصدق الذي بين يديه، إلا أن له الهيمنة عليه، فما وقف فيه على حدّ من أنباء ما بين يديه، يوقف عنده ولا يتجاوز، وحينئذ، فالقصة المعروفة عندهم هي التي أشير إليها. لكن مع الهيمنة عليها؛ إذ لا تقبل على علّاتها. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} أي: ابتليناه: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} أي: جسمًا مجسدًا كناية عن صنم- على ما رووه- وإنما أوثر الجسد عليه- إجلالًا لسليمان عليه السلام، وإشارة إلى أن قصته- إن صحت- كانت أمرًا عرض وزال، بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنَابَ} أي: إلى ربه بالتوبة والاستغفار، كما بينه بقوله سبحانه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} أي: غيري؛ لفخامته وعظمته، هبة فضل، وإيثار امتنان: {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} أي: فذللناها لطاعته إجابة لدعوته: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء} أي: لينة سهلة، مع شدة وقوة، لذا وصفت في الآية الأخرى ب: {عَاصِفَةً} {حَيْثُ أَصَابَ} أي: أراد.
{وَالشَّيَاطِينَ} عطف على الريح: {كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} أي: في فعر البحر.
{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} أي: مسلسلين في الأغلال لا يبعثهم إلى عمل.
{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ} أي: على من شئت من المقربين وغيرهم: {أَوْ أَمْسِكْ} أي امنع: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: غير محاسب على المنّ والإمساك، فيكون حالًا من المستكين، أو هو حال من العطاء، أو صلة له، وما بينهما اعتراض. والمعنى: إنه عطاء جمٌّ لا يكاد يمكن حصره، فقد يعبر عن الكثير ب: لا يعدّ، ولا يحسب، ونحوه.
{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى} أي: لقربى في الدرجات، و: {وَحُسْنَ مَآبٍ} أي: مرجع في الآخرة.
تنبيه:
روى الأثريّون هنا قصصًا مطولة ومختصرة، مؤتلفة ومختلفة. قال ابن كثير: وكلها متلقاة من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في سياقها منكرات، وتقوية ابن حجر لبعض منها بأنه خرجه النسائي بإسناد قوي لا عبرة له، فليس المقام قاصرًا على صحة السند فحسب ولو كان ذلك في الصحيحين، فأنى بمروي غيرهما؟
وذكر الرازي أن القصص المروية هنا هي لأهل الحشو من تأويلهم، وأما أهل التحقيق فلهم تأويلات، وقد ساقها فانظرها.
قال الإمام ابن حزم: معنى قوله تعالى: {فَتَنَا سُلَيْمانَ} أي: آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته، كما قال تعالى مصدقًا لموسى عليه السلام في قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} إذ من الفتنة ما يهدي الله بها من يشاء، وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1- 3] فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال، فهذه فتنة الله تعالى لسليمان، إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط، وما عدا هذا خرافات ولّدها زنادقة اليهود وأشباههم.
وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد. نؤمن بهذا كما هو، ونقول: صدق الله عز وجل، كل من عند الله ربنا. ولو جاء نص صحيح في القرآن، أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتفسير هذا الجسد ما هو، لقلنا به، فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح، فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك، فيكون كاذبًا على الله عز وجل، إلا أننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال إنه كان جنيًا تصور بصورته، بل نقطع على أنه كذب، والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلّى الله عليه وسلم هذا الهتك، وكذلك نبعد في قول من قال إنه كان ولدًا له، أرسله إلى السحاب ليربيه. فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عز وجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام. وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة، لم يصح إسنادها قط. انتهى.
وزعم القاشاني أن حكاية الجني والخاتم مع سليمان، هي من موضوعات حكماء اليهود، كسائر ما وضعت الحكماء في تمثيلاتهم من حكايات أبسال وسلامان.
ثم أخذ القاشاني في تأويلها، إلا أنه حل الإشكال بإشكال أعظم منه، عفا الله عنه، وقال قبلُ: إن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع، كان قد ابتلي بمثل ما ابتلي به ذو النون، وآدم عليهما السلام. انتهى، والله أعلم.
{وَاذْكُرْ} أي: في باب الابتلاء، وحسن عاقبة الصبر عليه: {عَبْدَنَا} أي: الكامل في التحقيق بالعبودية: {أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي: دعاه وابتهل إليه قائلًا: {أَنِّي مَسَّنِيَ} أي: أصابني: {الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} أي: مشقة، بضم النون، وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما وضمهما: {وَعَذَابٍ} أي: ألم شديد. وقوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} حكاية لما أجيب به دعاؤه عليه السلام. أي: فاستجبنا له، وقلنا: اركض برجلك. أي: اعدُ بها وامش، فقد برأت وشفيت من مرضك، وقوي جسمك، وصح بدنك: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي: ماء تغتسل به، وتشرب منه. والإشارة إلى عين، أو نهر، أو نحوهما.
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم: {وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا} أي ترحمًا منا عليه بهذا الإضعاف، والمباركة: {وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} أي: وتذكيرًا لهم لينتظروا الفرج بالصبر والنوال بصدق الاتكال.
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} أي: حزمة صغيرة: {فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} أي: في كل ما ابتليناه به: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: كثير الرجوع إلى الله تعالى، بالإنابة والابتهال والعبادة.
تنبيهات:
الأول- كان أيوب عليه السلام نبيًا غنيًا من أرباب العقار والماشية، وكان أميرًا في قومه، وكانت أملاكه، ومنزله في الجنوب الشرقي من البحر الميت، بين بلاد أدوم وصحراء العربية، وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة، كثيرة المياه المتسلسلة، وكان زمنه بعد زمن إبراهيم، وقبل زمن موسى عليهم السلام. هذا ما حققه بعض الباحثين. والله أعلم.
الثاني- يذكر كثير من المفسرين هاهنا مرويات وقصصًا إسرائيلية في ابتلائه عليه السلام. ولا وثوق من ذلك كله إلا بمجمله، وهو ما أشار له التنزيل الكريم؛ لأنه المتيقن، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أصابته بلوى عظيمة في نفسه، وماله، وأهله، وأنه صبر على ذلك صبرًا صار يضرب به المثل لثباته، وسعة صدره، وشجاعته، وأنه جوزي بحسنة صبره أضعافها المضاعفة.
الثالث- قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ نسب المسَّ إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه، ليقضي من إتعابهم، وتعذيبهم، وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحًا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟
قلت: لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سببًا فيما مسه الله به من النصب، والعذاب- نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دمغه، ورده بالصبر الجميل. انتهى. الرابع- دل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} الآية، على تقدم يمين منه عليه السلام، وقد رووا هنا آثارًا في المحلوف عليه، لم يصح منها شيء، فالله أعلم به، ولا ضرورة لبيانه؛ إذ القصد الإعلام برحمة أخرى ونعمة ثانية عليه، صلوات الله عليه. وهي الدلالة إلى المخرج من الحنث، برخصة وطريقة سهلة سمحة ترفع الحرج، ونحن نورد هنا أمثل ما كتب في الآية، إيقافًا للقارئ عليه:
قال السيوطي في الإكليل: أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وغيرهم أن أيوب حلف ليجلدن امرأته مائة جلد. فلما كشف الله عنه البلاء أمر أن يأخذ ضغثًا فيضربها به. فأخذ شماريخ مائة ثم ضربها ضربة واحدة. قال سعيد بن جبير: وهي لهذه الأمة لمن حلف على مثل ما حلف عليه أيوب. ثم أخرج أيضًا عن عطاء قال: هي للناس عامة. وعن مجاهد قال: كانت لأيوب خاصة. قال الكيا الهراسي: ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر، إلى أن من فعل ذلك فقد برّ في يمينه، وخالف مالك، ورآه خاصًا بأيوب.
قال: وفي الآية دليل على أن للزوج ضرب زوجته، وأن يحلف ولا يستثني. انتهى.
واستدل بهذه الآية على أن الاستثناء شرطه الاتصال؛ إذ لو لم يشترط لأمره تعالى بالاستثناء، ولم يحتج إلى الضرب بالضغث، واستدل عطاء بالآية على مسألة أخرى. فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند صحيح، أن رجلا قال له: إني أردت أن لا أكسي امرأتي ذراعًا حتى تقف بعرفة. فقال: احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة. فقال: إنما عنيت يوم عرفة. فقال عطاء: وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة، ما نوى أن يضربها بالضغث، إنما أمره الله أن يأخذ ضغثًا فيضربها به. قال عطاء: إنما القرآن عِبَرٌ. انتهى كلام الإكليل.
وقد رد الإمام ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان الاستدلال بهذه الآية على جواز الحيلة، وعبارته: وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فمن العجب أن يحتج بهذه الآية على من يقول: إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبرّ في يمينه، هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد. وقال الشافعي: إن علم أنها مسته كلها، برّ في يمينه، وإن علم أنها لم تمسه، لم يبرّ، وإن شك لم يحنث، ولو كان هذا موجبًا لبرّ الحالف، لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب، بأن يجمع له مائة سوط أو ثمانين، ويضربه بها ضربة واحدة، وهذا إنما يجري في المرض كما قال الإمام أحمد، في المريض عليه الحد، ويضرب بعثكال يسقط عنه الحد. واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل، عن سعيد بن سعد بن عُبَاْدَة قال: كان بين أبنائنا إنسان مخدجٍ ضعيف، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمةِ من إماء الدار يخبث بها، وكان مسلمًا، فرفع شأنه سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: «اضربوه حدّه» قالوا يا رسول الله! إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مائة قتلناه. فقال: «فخذوا له عثكالاَ فيه مائة شمراخ، فاضربوه ضربة واحدة، وخلوا سبيله».
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق؛ فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته، وخلاصة من دائه، تلتمس له الدواء بما عليه، فلما لقيها الشيطان، وقال ما قال، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطان. ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه، ولم يكن في شرعهم كفارة. فإنه لو كان في شرعهم كفارة، لعدل إلى التفكير، ولم يحتج إلى ضربها، فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود.
وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورًا خفف عنه، بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة. وامرأة أيوب كانت معذورة، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان. فلم تكن تستحق العقوبة، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع له بين البر في يمينه، والرفق بامرأته المحسنة المعذورة، التي لا تستحق العقوبة. فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام، لنص السنة، في شأن الضعيف الذي زنى. فلا يتعدى بهما عن محلهما.
فإن قيل: فقولوا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته، أو أمته مائة، وكانتا معذورتين لا ذنب لهما، إنه يبر بجمع ذلك في ضربهما بمائة شمراخ. قيل: قد جعل الله له مخرجًا بالكفارة، ويجب عليه أن يكفر يمينه، ويقضي الله بالبر في يمينه ها هنا، ولا يحل له أن يبر فيها، بل بره هو حنثه مع الكفارة، ولا يحل له أن يضربها، لا مفرقًا، ولا مجموعًا.
فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبًا كالحد، هل تقولون ينفعه ذلك؟ قيل: إما أن يكون العذر مرجو الزوال كالحر، والبرد الشديد، والمرض اليسير، فهذا ينتظر زواله. ثم يحد الحد الواجب. كما روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه، أن أمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها. فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: «أحسنت اتركها حتى تَمَاثل». انتهى كلام ابن القيم. اهـ.